الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب نَظَرِ الْفَجْأَةِ: قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي هَذَا حُجَّة أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى الْمَرْأَة أَنْ تَسْتُر وَجْههَا فِي طَرِيقهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّة مُسْتَحَبَّة لَهَا، وَيَجِب عَلَى الرِّجَال غَضّ الْبَصَر عَنْهَا فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيح شَرْعِيّ، وَهُوَ حَالَة الشَّهَادَة وَالْمُدَاوَاة، وَإِرَادَة خِطْبَتهَا، أَوْ شِرَاء الْجَارِيَة، أَوْ الْمُعَامَلَة بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء، وَغَيْرهمَا، وَنَحْو ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُبَاح فِي جَمِيع هَذَا قَدْر الْحَاجَة دُون مَا زَادَ. وَاللَّه أَعْلَم. .كتاب السلام: .باب يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ: وَبِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ كُلّهمْ فِي التَّشَهُّد: السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته. وَيُكْرَه أَنْ يَقُول الْمُبْتَدِي: عَلَيْكُمْ السَّلَام، فَإِنْ قَالَهُ اِسْتَحَقَّ الْجَوَاب عَلَى الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقِيلَ: لَا يَسْتَحِقّ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَام؛ فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَام تَحِيَّة الْمَوْتَى» وَاللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا صِفَة الرَّدّ فَالْأَفْضَل وَالْأَكْمَل أَنْ يَقُول: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَيَأْتِي بِالْوَاوِ، فَلَوْ حَذَفَهَا جَازَ، وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ، وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، أَوْ عَلَى: عَلَيْكُمْ السَّلَام أَجْزَأَهُ، وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى: عَلَيْكُمْ لَمْ يَجْزِهِ، بِلَا خِلَاف، وَلَوْ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. قَالُوا: وَإِذَا قَالَ الْمُبْتَدِي: سَلَام عَلَيْكُمْ، أَوْ السَّلَام عَلَيْكُمْ، فَقَالَ الْمُجِيب مِثْله: سَلَام عَلَيْكُمْ، أَوْ السَّلَام عَلَيْكُمْ، كَانَ جَوَابًا وَأَجْزَأَهُ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ}. وَلَكِنْ بِالْأَلْفِ وَاللَّام أَفْضَل. وَأَقَلّ السَّلَام اِبْتِدَاء وَرَدًّا أَنْ يُسْمِع صَاحِبه، وَلَا يُجْزِئهُ دُون ذَلِكَ، وَيُشْتَرَط كَوْن الرَّدّ عَلَى الْفَوْر، وَلَوْ أَتَاهُ سَلَام مِنْ غَائِب مَعَ رَسُول أَوْ فِي وَرَقَة وَجَبَ الرَّدّ عَلَى الْفَوْر، وَقَدْ جَمَعْت فِي كِتَاب الْأَذْكَار نَحْو كُرَّاسَتَيْنِ فِي الْفَوَائِد الْمُتَعَلِّقَة بِالسَّلَامِ، وَهَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيث مِنْ تَسْلِيم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي، وَالْقَائِم عَلَى الْقَاعِد، وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِير، وَفِي كِتَاب الْبُخَارِيّ: وَالصَّغِير عَلَى الْكَبِير، كُلّه لِلِاسْتِحْبَابِ، فَلَوْ عَكَسُوا جَازَ، وَكَانَ خِلَاف الْأَفْضَل. وَأَمَّا مَعْنَى السَّلَام فَقِيلَ: هُوَ اِسْم اللَّه تَعَالَى، فَقَوْله: السَّلَام عَلَيْك أَيْ اِسْم السَّلَام عَلَيْك، وَمَعْنَاهُ اِسْم اللَّه عَلَيْك أَيْ أَنْتَ فِي حِفْظه كَمَا يُقَال: اللَّه مَعَك، وَاللَّه يَصْحَبك. وَقِيلَ: السَّلَام بِمَعْنَى السَّلَامَة، أَيْ السَّلَامَة مُلَازِمَة لَك. .باب مِنْ حَقِّ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرِيقِ رَدُّ السَّلاَمِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِجْتَنِبُوا مَجَالِس الصُّعُدَاتِ فَقُلْنَا: إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَاسٍ، فَقَعَدْنَا نَتَذَاكَر وَنَتَحَدَّث. قَالَ إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقّهَا: غَضّ الْبَصَر، وَرَدّ السَّلَام، وَحُسْن الْكَلَام» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «غَضّ الْبَصَر، وَكَفّ الْأَذَى، وَرَدّ السَّلَام، وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر». أَمَّا (الصُّعُدَات) فَبِضَمِّ الصَّاد وَالْعَيْن، وَهِيَ الطُّرُقَات، وَاحِدهَا صَعِيد كَطَرِيقٍ، يُقَال: صَعِيد وَصُعُد وَصُعْدَان كَطَرِيقٍ وَطُرُق وَطَرَقَات عَلَى وَزْنه وَمَعْنَاهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا لَا» فَبِكَسْرِ الْهَمْزَة وَبِالْإِمَالَةِ، وَمَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوهَا فَأَدُّوا حَقّهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ اللَّفْظَة مَبْسُوطًا فِي كِتَاب الْحَجّ. وَقَوْله: «قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسِ» لَفْظَة (مَا) زَائِدَة. 4021- قَدْ سَبَقَ شَرْح هَذَا الْحَدِيث، وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنَّهُ يُكْرَه الْجُلُوس عَلَى الطُّرُقَات لِلْحَدِيثِ وَنَحْوه، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِلَّة النَّهْي مِنْ التَّعَرُّض لِلْفِتَنِ وَالْإِثْم بِمُرُورِ النِّسَاء وَغَيْرهنَّ، وَقَدْ يَمْتَدّ نَظَر إِلَيْهِنَّ أَوْ فِكْر فيهنَّ أَوْ ظَنّ سُوء فيهنَّ أَوْ فِي غَيْرهنَّ مِنْ الْمَارِّينَ، وَمِنْ أَذَى النَّاس بِاحْتِقَارِ مَنْ يَمُرّ، أَوْ غِيبَة أَوْ غَيْرهَا، أَوْ إِهْمَال رَدّ السَّلَام فِي بَعْض الْأَوْقَات، أَوْ إِهْمَال الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي لَوْ خَلَا فِي بَيْته سَلِمَ مِنْهَا. وَيَدْخُل فِي الْأَذَى أَنْ يُضَيِّق الطَّرِيق عَلَى الْمَارِّينَ، أَوْ يَمْتَنِع النِّسَاء وَنَحْوهنَّ مِنْ الْخُرُوج فِي أَشْغَالهنَّ بِسَبَبِ قُعُود الْقَاعِدِينَ فِي الطَّرِيق، أَوْ يَجْلِس بِقُرْبِ بَاب دَار إِنْسَان يَتَأَذَّى بِذَلِكَ، أَوْ حَيْثُ يَكْشِف مِنْ أَحْوَال النَّاس النَّاس شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ. وَأَمَّا حُسْن الْكَلَام فَيَدْخُل فيه حُسْن كَلَامهمْ فِي حَدِيثهمْ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ، فَلَا يَكُون فيه غِيبَة، وَلَا نَمِيمَة، وَلَا كَذِب، وَلَا كَلَام يُنْقِص الْمُرُوءَة، وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام الْمَذْمُوم، وَيَدْخُل فيه كَلَامهمْ لِلْمَارِّ مِنْ رَدّ السَّلَام، وَلُطْف جَوَابهمْ لَهُ، وَهِدَايَته لِلطَّرِيقِ، وَإِرْشَاده لِمَصْلَحَتِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ. .باب مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ رَدُّ السَّلاَمِ: وَقَدْ سَبَقَ شَرْح هَذَا الْحَدِيث مُسْتَوْفَى فِي كِتَاب اللِّبَاس، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ التَّشْمِيت بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالْمُهْمَلَة، وَبَيَان اِشْتِقَاقه. وَأَمَّا رَدّ السَّلَام وَابْتِدَاؤُهُ فَقَدْ سَبَقَا فِي الْبَاب الْمَاضِي. 4023- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقّ الْمُسْلِم عَلَى الْمُسْلِم سِتّ: إِذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبهُ، وَإِذَا اِسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّه فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ». قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا اِسْتَنْصَحَك» فَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْك النَّصِيحَة، فَعَلَيْك أَنْ تَنْصَحهُ، وَلَا تُدَاهِنهُ، وَلَا تَغُشّهُ، وَلَا تُمْسِك عَنْ بَيَان النَّصِيحَة. وَاللَّه أَعْلَم. .باب النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلاَمِ وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى الرَّدّ عَلَى أَهْل الْكِتَاب إِذَا سَلَّمُوا، لَكِنْ لَا يُقَال لَهُمْ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، بَلْ يُقَال: عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا (مُسْلِم) (عَلَيْكُمْ) (وَعَلَيْكُمْ) بِإِثْبَاتِ الْوَاو وَحَذْفهَا، وَأَكْثَر الرِّوَايَات بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، فَقَالُوا: عَلَيْكُمْ الْمَوْت، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فيه سَوَاء، وَكُلّنَا نَمُوت. وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاو هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيك، وَتَقْدِيره: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمّ. وَأَمَّا حَذْف الْوَاو فَتَقْدِيره بَلْ عَلَيْكُمْ السَّام. قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَارَ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ حَذْف الْوَاو لِئَلَّا يَقْتَضِي التَّشْرِيك، وَقَالَ غَيْره: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات. قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يَقُول: عَلَيْكُمْ السِّلَام بِكَسْرِ السِّين أَيْ الْحِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَامَّة الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَ هَذَا الْحَرْف (وَعَلَيْكُمْ) بِالْوَاوِ، وَكَانَ اِبْن عُيَيْنَةَ يَرْوِيه بِغَيْرِ وَاو. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ (الْوَاو) صَارَ كَلَامهمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّة، وَإِذَا ثَبَتَ (الْوَاو) اِقْتَضَى الْمُشَارَكَة مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيِّ. وَالصَّوَاب أَنَّ إِثْبَات الْوَاو وَحَذْفهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَات، وَأَنَّ الْوَاو أَجْوَد كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات، وَلَا مَفْسَدَة فيه، لِأَنَّ السَّام الْمَوْت، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَا ضَرَر فِي قَوْله بِالْوَاوِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رَدّ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ، فَمَذْهَبنَا تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَوُجُوب رَدّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكُمْ، أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، وَدَلِيلنَا فِي الِابْتِدَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ» وَفِي الرَّدّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء وَعَامَّة السَّلَف، وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى جَوَاز اِبْتِدَائِنَا لَهُمْ بِالسَّلَامِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْن أَبِي مُحَيْرِيز، وَهُوَ وَجْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ، لَكِنَّهُ قَالَ: يَقُول: السَّلَام عَلَيْك، وَلَا يَقُول: عَلَيْكُمْ بِالْجَمْعِ. وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيث، وَبِإِفْشَاءِ السَّلَام، وَهِيَ حُجَّة بَاطِلَة لِأَنَّهُ عَامّ مَخْصُوص بِحَدِيث: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ» وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يُكْرَه اِبْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَحْرُم، وَهَذَا ضَعِيف أَيْضًا، لِأَنَّ النَّهْي. لِلتَّحْرِيمِ. فَالصَّوَاب تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ جَمَاعَة أَنَّهُ يَجُوز اِبْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَة أَوْ سَبَب، وَهُوَ قَوْل عَلْقَمَة وَالنَّخَعِيِّ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ سَلَّمْت فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ، وَإِنْ تَرَكْت فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ. وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء: لَا يُرَدّ عَلَيْهِمْ السَّلَام، وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَأَشْهَب عَنْ مَالِك، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَجُوز أَنْ يَقُول فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، وَلَكِنْ لَا يَقُول: وَرَحْمَة اللَّه. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ، وَهُوَ ضَعِيف مُخَالِف لِلْأَحَادِيثِ وَاللَّه أَعْلَم. وَيَجُوز الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ عَلَى جَمْع فيهمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّار، أَوْ مُسْلِم وَكُفَّار، وَيَقْصِد الْمُسْلِمِينَ لِلْحَدِيثِ السَّابِق أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَى مَجْلِس فيه أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. 4025- سبق شرحه بالباب. 4026- سبق شرحه بالباب. 4027- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَة إِنَّ اللَّه يُحِبّ الرِّفْق فِي الْأَمْر كُلّه» هَذَا مِنْ عَظِيم خَلْقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَال حِلْمه، وَفيه حَثّ عَلَى الرِّفْق وَالصَّبْر وَالْحِلْم وَمُلَاطَفَة النَّاس مَا لَمْ تَدْعُ حَاجَة إِلَى الْمُخَاشَنَة. 4028- قَوْلهَا: «عَلَيْكُمْ السَّام وَالذَّامُ» هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم، وَهُوَ الذَّمّ، وَيُقَال بِالْهَمْزِ أَيْضًا، وَالْأَشْهَر تَرْك الْهَمْز، وَأَلِفه مُنْقَلِبَة عَنْ وَاو، وَالذَّمّ وَالذَّيْم وَالذَّمّ بِمَعْنَى الْعَيْب، وَرُوِيَ الدَّامُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَمَعْنَاهُ الدَّائِم، وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ اِبْن الْأَثِير، وَنَقَلَ الْقَاضِي الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ. قَالَ: وَلَوْ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْه. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: «فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَة فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَة فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْفُحْش وَالتَّفَحُّش» (مَهْ) كَلِمَة زَجْر عَنْ الشَّيْء. وَقَوْله: (فَفَطِنَتْ) هُوَ بِالْفَاءِ وَبِالنُّونِ بَعْد الطَّاء مِنْ الْفِطْنَة، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: (فَقَطَّبَتْ) بِالْقَافِ وَتَشْدِيد الطَّاء وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَقَدْ تُخَفَّف الطَّاء فِي هَذَا اللَّفْظ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «غَضِبَتْ» وَلَكِنَّ الصَّحِيح الْأَوَّل. وَأَمَّا سَبّهَا لَهُمْ فَفيه الِانْتِصَار مِنْ الظَّالِم، وَفيه الِانْتِصَار لِأَهْلِ الْفَضْل مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ. وَأَمَّا الْفُحْش فَهُوَ الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل. وَقِيلَ: الْفُحْش مُجَاوَزَة الْحَدّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب تَغَافُل أَهْل الْفَضْل عَنْ سَفَه الْمُبْطِلِينَ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَفْسَدَة. قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه: الْكَيِّس الْعَاقِل هُوَ الْفَطِن الْمُتَغَافِل. 4030- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدهمْ فِي طَرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقه» قَالَ أَصْحَابنَا: لَا يُتْرَك لِلذِّمِّيِّ صَدْر الطَّرِيق، بَلْ يُضْطَرّ إِلَى أَضْيَقه إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْرُقُونَ، فَإِنْ خَلَتْ الطَّرِيق عَنْ الزَّحْمَة فَلَا حَرَج. قَالُوا: وَلْيَكُنْ التَّضْيِيق بِحَيْثُ لَا يَقَع فِي وَهْدَة، وَلَا يَصْدِمهُ جِدَار وَنَحْوه. وَاللَّه أَعْلَم. .باب اسْتِحْبَابِ السَّلاَمِ عَلَى الصِّبْيَانِ: وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَجِب، وَهُوَ ضَعِيف أَوْ غَلَط. وَأَمَّا النِّسَاء فَإِنْ كُنَّ جَمِيعًا سَلَّمَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَة سَلَّمَ عَلَيْهَا النِّسَاء وَزَوْجهَا وَسَيِّدهَا وَمَحْرَمهَا، سَوَاء كَانَتْ جَمِيلَة أَوْ غَيْرهَا. وَأَمَّا الْأَجْنَبِيّ فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى اُسْتُحِبَّ لَهُ السَّلَام عَلَيْهَا، وَاسْتُحِبَّ لَهَا السَّلَام عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَزِمَ الْآخَر رَدّ السَّلَام عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ شَابَّة أَوْ عَجُوزًا تُشْتَهَى لَمْ يُسَلِّم عَلَيْهَا الْأَجْنَبِيّ، وَلَمْ تُسَلِّم عَلَيْهِ. وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَمْ يَسْتَحِقّ جَوَابًا، وَيُكْرَه رَدّ جَوَابه، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور. وَقَالَ رَبِيعَة: لَا يُسَلِّم الرِّجَال عَلَى النِّسَاء، وَلَا النِّسَاء عَلَى الرِّجَال، وَهَذَا غَلَط. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يُسَلِّم الرِّجَال عَلَى النِّسَاء إِذَا لَمْ يَكُنْ فيهنَّ مَحْرَم. وَاللَّه أَعْلَم. 4032- سبق شرحه بالباب. .باب جَوَازِ جَعْلِ الإِذْنِ رَفْعَ حِجَابٍ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ الْعَلاَمَاتِ: قَالُوا: وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ إِدْنَاء سِوَادك مِنْ سِوَاده عِنْد الْمُسَارَرَة، أَيْ شَخْصك مِنْ شَخْصه. وَالسِّوَاد اِسْم لِكُلِّ شَخْص، وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ اِعْتِمَاده الْعَلَامَة فِي الْإِذْن فِي الدُّخُول. فَإِذَا جَعَلَ الْأَمِير وَالْقَاضِي وَنَحْوهمَا وَغَيْرهمَا رَفْع السِّتْر الَّذِي عَلَى بَابه عَلَامَة فِي الْإِذْن فِي الدُّخُول عَلَيْهِ لِلنَّاسِ عَامَّة، أَوْ لِطَائِفَةٍ خَاصَّة، أَوْ لِشَخْصٍ، أَوْ جَعَلَ عَلَامَة غَيْر ذَلِكَ، جَازَ اِعْتِمَادهَا وَالدُّخُول إِذَا وُجِدَتْ بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان، وَكَذَا إِذَا جَعْل الرَّجُل ذَلِكَ عَلَامَة بَيْنه وَبَيْن خَدَمه، وَمَمَالِيكه، وَكِبَار أَوْلَاده، وَأَهْله، فَمَتَى أَرْخَى حِجَابه فَلَا دُخُول عَلَيْهِ إِلَّا بِاسْتِئْذَانٍ، فَإِذَا رَفَعَهُ جَازَ بِلَا اِسْتِئْذَان. وَاللَّه أَعْلَم. .باب إِبَاحَةُ الْخُرُوجِ لِلنِّسَاءِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الإِنْسَانِ: وَقَوْله: (لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفهَا) يَعْنِي لَا تَخْفَى إِذَا كَانَتْ مُتَلَفِّفَة فِي ثِيَابهَا وَمِرْطهَا فِي ظُلْمَة اللَّيْل وَنَحْوهَا عَلَى مَنْ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ مَعْرِفَة طُولهَا لِانْفِرَادِهَا بِذَلِكَ. قَوْلهَا: (وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَده عَرْق) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان الرَّاء، وَهُوَ الْعَظْم الَّذِي عَلَيْهِ بَقِيَّة لَحْم. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقِيلَ: هُوَ الْقَذِرَة مِنْ اللَّحْم، وَهُوَ شَاذّ ضَعِيف. قَوْله: «قَالَ هِشَام: يَعْنِي الْبَرَاز» هَكَذَا الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة (الْبَرَاز) بِفَتْحِ الْبَاء، وَهُوَ الْمَوْضِع الْوَاسِع الْبَارِز الظَّاهِر، وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح: البِرَاز بِكَسْرِ الْبَاء هُوَ الْغَائِط، وَهَذَا أَشْبَه أَنْ يَكُون هُوَ الْمُرَاد هُنَا، فَإِنَّ مُرَاد هِشَام بِقَوْلِهِ: (يَعْنِي الْبَرَاز) تَفْسِير قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ» أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ فَقَالَ هِشَام: الْمُرَاد بِحَاجَتِهِنَّ الْخُرُوج لِلْغَائِطِ، لَا لِكُلِّ حَاجَة مِنْ أُمُور الْمَعَايِش. وَاللَّه أَعْلَم. 4035- قَوْله: «كُنَّ يَخْرُجْنَ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِع» وَهُوَ صَعِيد أَفْيَح. مَعْنَى (تَبَرَّزْنَ) أَرَدْنَ الْخُرُوج لِقَضَاءِ الْحَاجَة، (وَالْمَنَاصِع) بِفَتْحِ الْمِيم وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَة الْمَكْسُورَة، وَهُوَ جَمْع مَنْصَع، وَهَذِهِ الْمَنَاصِع مَوَاضِع. قَالَ الْأَزْهَرِيّ: أَرَاهَا مَوَاضِع خَارِج الْمَدِينَة، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله فِي الْحَدِيث، وَهُوَ صَعِيد أَفْيَح، أَيْ أَرْض مُتَّسَعَة، وَالْأَفْيَح بِالْفَاءِ الْمَكَان الْوَاسِع. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَنْقَبَة ظَاهِرَة لِعُمَر اِبْن الْخَطَّاب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه تَنْبِيه أَهْل الْفَضْل وَالْكِبَار عَلَى مَصَالِحهمْ، وَنَصِيحَتهمْ، وَتَكْرَار ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَفيه جَوَاز تَعَرُّق الْعَظْم. وَجَوَاز خُرُوج الْمَرْأَة مِنْ بَيْت زَوْجهَا لِقَضَاءِ حَاجَة الْإِنْسَان إِلَى الْمَوْضِع الْمُعْتَاد لِذَلِكَ بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان الزَّوْج، لِأَنَّهُ مِمَّا أَذِنَ فيه الشَّرْع. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فَرْض الْحِجَاب مِمَّا اُخْتُصَّ بِهِ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ فَرْض عَلَيْهِنَّ بِلَا خِلَاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، فَلَا يَجُوز لَهُنَّ كَشْف ذَلِكَ لِشَهَادَةٍ وَلَا غَيْرهَا، وَلَا يَجُوز لَهُنَّ إِظْهَار شُخُوصهنَّ، وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَات إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَة مِنْ الْخُرُوج لِلْبَرَازِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب}. وَقَدْ كُنَّ إِذَا قَعَدْنَ لِلنَّاسِ جَلَسْنَ مِنْ وَرَاء الْحِجَاب، وَإِذَا خَرَجْنَ حُجِبْنَ وَسَتَرْنَ أَشْخَاصهنَّ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث حَفْصَة يَوْم وَفَاة عُمَر، وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ زَيْنَب رَضِيَ اللَّه عَنْهَا جَعَلُوا لَهَا قُبَّة فَوْق نَعْشهَا تَسْتُر شَخْصهَا. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. .باب تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا: قَالَ: وَالْمُرَاد بِالنَّاكِحِ الْمَرْأَة الْمُزَوَّجَة وَزَوْجهَا حَاضِر، فَيَكُون مَبِيت الْغَرِيب فِي بَيْتهَا. بِحَضْرَةِ زَوْجهَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَة الَّتِي اِقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَالتَّفْسِير غَرِيبَانِ مَرْدُودَانِ، وَالصَّوَاب الرِّوَايَة الْأُولَى الَّتِي ذَكَرْتهَا عَنْ نُسَخ بِلَادنَا، وَمَعْنَاهُ لَا يَبِيتَنَّ رَجُل عِنْد اِمْرَأَة إِلَّا زَوْجهَا أَوْ مَحْرَم لَهَا. قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا خُصَّ الثَّيِّب لِكَوْنِهَا الَّتِي يَدْخُل إِلَيْهَا غَالِبًا، وَأَمَّا الْبِكْر فَمَصُونَة مُتَصَوِّنَة فِي الْعَادَة مُجَانِبَة لِلرِّجَالِ أَشَدّ مُجَانَبَة، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرهَا، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَاب التَّنْبِيه، لِأَنَّهُ إِذَا نُهِيَ عَنْ الثَّيِّب الَّتِي يَتَسَاهَل النَّاس فِي الدُّخُول عَلَيْهَا فِي الْعَادَة، فَالْبِكْر أَوْلَى وَفِي هَذَا الْحَدِيث وَالْأَحَادِيث بَعْده تَحْرِيم الْخَلْوَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِبَاحَة الْخَلْوَة بِمَحَارِمِهَا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُجْمَع عَلَيْهِمَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُحْرِم هُوَ كُلّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحهَا عَلَى التَّأْبِيد لِسَبَبِ مُبَاح لِحُرْمَتِهَا. فَقَوْلنَا: (عَلَى التَّأْبِيد) اِحْتِرَاز مِنْ أُخْت اِمْرَأَته وَعَمَّتهَا وَخَالَتهَا وَنَحْوهنَّ، وَمِنْ بِنْتهَا قَبْل الدُّخُول بِالْأُمِّ. وَقَوْلنَا: (لِسَبَبٍ مُبَاح) اِحْتِرَاز مِنْ أُمّ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةٍ وَبِنْتهَا فَإِنَّهُ حَرَام عَلَى التَّأْبِيد، لَكِنْ لَا لِسَبَبٍ مُبَاح، فَإِنَّ وَطْء الشُّبْهَة لَا يُوصَف بِأَنَّهُ مُبَاح، وَلَا مُحَرَّم، وَلَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ أَحْكَام الشَّرْع الْخَمْسَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْل مُكَلَّف. وَقَوْلنَا: (لِحُرْمَتِهَا) اِحْتِرَاز مِنْ الْمُلَاعَنَة فَهِيَ حَرَام عَلَى التَّأْبِيد لَا لِحُرْمَتِهَا بَلْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَم. 4037- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمو الْمَوْت» قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد: الْحَمو أَخُو الزَّوْج، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِب الزَّوْج: اِبْن الْعَمّ وَنَحْوه. اِتَّفَقَ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ الْأَحْمَاء أَقَارِب زَوْج الْمَرْأَة كَأَبِيهِ، وَأَخِيهِ، وَابْن أَخِيهِ، وَابْن عَمّه، وَنَحْوهمْ. وَالْأُخْتَانِ أَقَارِب زَوْجَة الرَّجُل. وَالْأَصْهَار يَقَع عَلَى النَّوْعَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمو الْمَوْت» فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْف مِنْهُ أَكْثَر مِنْ غَيْره، وَالشَّرّ يُتَوَقَّع مِنْهُ، وَالْفِتْنَة أَكْثَر لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَرْأَة وَالْخَلْوَة مِنْ غَيْر أَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيّ. وَالْمُرَاد بِالْحَمْوِ هُنَا أَقَارِب الزَّوْج غَيْر آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. فَأَمَّا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء فَمَحَارِم لِزَوْجَتِهِ تَجُوز لَهُمْ الْخَلْوَة بِهَا، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعَمّ، وَابْنه، وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ. وَعَادَة النَّاس الْمُسَاهَلَة فيه، وَيَخْلُو بِامْرَأَةِ أَخِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْت، وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ صَوَاب مَعْنَى الْحَدِيث. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيّ، وَحَكَاهُ أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَمْوِ أَبُو الزَّوْج، وَقَالَ: إِذَا نُهِيَ عَنْ أَبِي الزَّوْج، وَهُوَ مَحْرَم، فَكَيْف بِالْغَرِيبِ؟ فَهَذَا كَلَام فَاسِد مَرْدُود، وَلَا يَجُوز حَمْل الْحَدِيث عَلَيْهِ فَكَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي عُبَيْد أَنَّ مَعْنَى الْحَمو الْمَوْت فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَل هَذَا هُوَ أَيْضًا كَلَام فَاسِد، بَلْ الصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: هِيَ كَلِمَة تَقُولهَا الْعَرَب، كَمَا يُقَال: الْأَسَد الْمَوْت، أَيْ لِقَاؤُهُ مِثْل الْمَوْت. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ الْخَلْوَة بِالْأَحْمَاءِ مُؤَدِّيَة إِلَى الْفِتْنَة وَالْهَلَاك فِي الدِّين، فَجَعَلَهُ كَهَلَاكِ الْمَوْت، فَوَرَدَ الْكَلَام مَوْرِد التَّغْلِيظ. قَالَ: وَفِي الْحَمّ أَرْبَع لُغَات إِحْدَاهَا هَذَا حَمُوك بِضَمِّ الْمِيم فِي الرَّفْع، وَرَأَيْت حَمَاك، وَمَرَرْت بِحَمِيك وَالثَّانِيَة هَذَا حَمْؤُك بِإِسْكَانِ الْمِيم وَهَمْزَة مَرْفُوعَة، وَرَأَيْت حَمْأَك، وَمَرَرْت بِحَمْئِك. وَالثَّالِثَة حَمَا هَذَا حَمَاك وَرَأَيْت حَمَاك وَمَرَرْت بِحَمَاك كَقَفَا وَقَفَاك. وَالرَّابِعَة حَمّ كَأَبٍّ. وَأَصْله حَمَو بِفَتْحِ الْحَاء وَالْمِيم. وَحَمَاة الْمَرْأَة أُمّ زَوْجهَا. لَا يُقَال فيها غَيْر هَذَا. 4039- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلَنَّ رَجُل بَعْد يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغْيِبَة إِلَّا وَمَعَهُ رَجُل أَوْ رَجُلَانِ» الْمُغْيِبَة بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْيَاء وَهِيَ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجهَا. وَالْمُرَاد غَابَ زَوْجهَا عَنْ مَنْزِلهَا، سَوَاء غَابَ عَنْ الْبَلَد بِأَنْ سَافَرَ، أَوْ غَابَ عَنْ الْمَنْزِل، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَد. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره، وَهَذَا ظَاهِر مُتَعَيِّن. قَالَ الْقَاضِي: وَدَلِيله هَذَا الْحَدِيث، وَأَنَّ الْقِصَّة الَّتِي قِيلَ الْحَدِيث بِسَبَبِهَا وَأَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ غَائِب عَنْ مَنْزِله لَا عَنْ الْبَلَد. وَاللَّه أَعْلَم. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث جَوَاز خَلْوَة الرَّجُلَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا تَحْرِيمه، فَيَتَأَوَّل الْحَدِيث عَلَى جَمَاعَة يَبْعُد وُقُوع الْمُوَاطَأَة مِنْهُمْ عَلَى الْفَاحِشَة لِصَلَاحِهِمْ، أَوْ مُرُوءَتهمْ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إِلَى نَحْو هَذَا التَّأْوِيل. .(باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به): 4041- قَوْله فِي حَدِيث صَفِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَزِيَارَتهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِعْتِكَافه عِشَاء، فَرَأَى الرَّجُلَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهَا صَفِيَّة فَقَالَا: سُبْحَان اللَّه، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم» الْحَدِيث فيه فَوَائِد مِنْهَا بَيَان كَمَالِ شَفَقَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّته، وَمُرَاعَاته لِمَصَالِحِهِمْ، وَصِيَانَة قُلُوبهمْ وَجَوَارِحهمْ، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا فَخَافَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلَقِي الشَّيْطَان فِي قُلُوبهمَا فيهلِكَا، فَإِنَّ ظَنَّ السُّوء بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْر بِالْإِجْمَاعِ، وَالْكَبَائِر غَيْر جَائِزَة عَلَيْهِمْ. وَفيه أَنَّ مَنْ ظَنَّ شَيْئًا مِنْ نَحْو هَذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ، وَفيه جَوَاز زِيَارَة الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا الْمُعْتَكِف فِي لَيْل أَوْ نَهَار، وَأَنَّهُ لَا يَضُرّ اِعْتِكَافه، لَكِنْ يُكْرَه الْإِكْثَار مِنْ مُجَالَسَتهَا وَالِاسْتِلْذَاذ بِحَدِيثِهَا لِئَلَّا يَكُون ذَرِيعَة إِلَى الْوِقَاع أَوْ إِلَى الْقُبْلَة أَوْ نَحْوهَا مِمَّا يُفْسِد الِاعْتِكَاف وَفيه اِسْتِحْبَاب التَّحَرُّز مِنْ التَّعَرُّض لِسُوءِ ظَنّ النَّاس فِي الْإِنْسَان، وَطَلَب السَّلَامَة وَالِاعْتِذَار بِالْأَعْذَارِ الصَّحِيحَة، وَأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ مَا قَدْ يُنْكَر ظَاهِره مِمَّا هُوَ حَقّ، وَقَدْ يَخْفَى، أَنْ يُبَيِّن حَاله لِيَدْفَع ظَنَّ السُّوء. وَفيه الِاسْتِعْدَاد لِلتَّحَفُّظِ مِنْ مَكَايِد الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم، فَيَتَأَهَّب الْإِنْسَان لِلِاحْتِرَازِ مِنْ وَسَاوِسه وَشَرّه وَاللَّه أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لَهُ قُوَّة وَقُدْرَة عَلَى الْجَرْي فِي بَاطِن الْإِنْسَان مَجَارِي دَمه. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الِاسْتِعَارَة لِكَثْرَةِ إِغْوَائِهِ وَوَسْوَسَته، فَكَأَنَّهُ لَا يُفَارِق الْإِنْسَان كَمَا لَا يُفَارِقهُ دَمه. وَقِيلَ: يُلْقِي وَسْوَسَته فِي مَسَامّ لَطِيفَة مِنْ الْبَدَن، فَتَصِل الْوَسْوَسَة إِلَى الْقَلْب. وَاللَّه أَعْلَم. قَوْلهَا: «فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبنِي» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء أَيْ لِيَرُدّنِي إِلَى مَنْزِلِي. فيه جَوَاز تَمَشِّي الْمُعْتَكِف مَعَهَا مَا لَمْ يَخْرُج مِنْ الْمَسْجِد وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِد. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلكُمَا» هُوَ بِكَسْرِ الرَّاء وَفَتْحهَا، لُغَتَانِ، وَالْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر، أَيْ عَلَى هَيْئَتكُمَا فِي الْمَشْي، فَمَا هُنَا شَيْء تَكْرَهَانِهِ. قَوْله: «فَقَالَ سُبْحَان اللَّه» فيه جَوَاز التَّسْبِيح تَعْظِيمًا لِلشَّيْءِ وَتَعَجُّبًا مِنْهُ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْأَحَادِيث، وَجَاءَ بِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَك}.
|